الفصل الأول
من كـتــاب المواضـيـع الـثـقـافـيـة
للكاتب عبد الله خمّار
دراسة المواضيع الثقافيّة
نموذج مدروس
الجمال (نجيب محفوظ):
من حسن حظ أدب الرواية العربي أن محفوظ ترجم وهو طالب في السنة الثانية بقسم الفلسفة، كتابَ "مصر القديمة" لجيمس بيكي، وكان يعدّ بعد تخرجه من قسم الفلسفة رسالة ماجستير في مفهوم الجمال في الفلسفة الإسلامية، ولم يقدم محفوظ هذه الرسالة، ولكن اهتمامه بتاريخ الفراعنة، وبدراسة الجمال أنتجا رواية "رادوبيس" الرائعة. ولابد أن موضوع الجمال أرّق محفوظ كما يؤرّق كل فنان عبقري عظيم الحساسية.
ترى ما هو الجمال؟ وما مظاهره وما معاييره إنْ كانتْ له معايير؟ وما علاقته بقيم الخير والحق والجمال؟ وما علاقته بالفن؟ وبالمال والقوة والسلطان؟ وأيها له الغلبة؟ ولأي سلطان يخضع الجمال؟ وهل هو نعيم أم جحيم؟ والجمال الذي نعنيه هنا هو جمال الأشخاص، ولاسيما جمال المرأة.
هي أسئلة فلسفية، ولكن محفوظ حاول أن يجيب عنها إجابة واقعية في موضوع "الجمال" من خلال بطلة الرواية الغانية الحسناء "رادوبيس" الفتاة الريفية البسيطة التي رفعها جمالها فأصبحت محط أنظار صفوة رجال المملكة من قادة ووجهاء وتجار وفنانين بما فيهم "فرعون" نفسه.
ولكي ندرس موضوع الجمال في هذه الرواية نستعين بالمخطط الذي تعرفنا عليه في الجزء الرابع ويتضمن مرحلتين:
المرحلة الأولى:
أ- تقديم عمل الكاتب من خلال:
1- جمع كافة المعلومات الموجودة في الرواية عن الجمال.
2- تحليلها واستخراج عناصرها.
3- تصنيفها وتنظيمها وترتيبها بصورة منطقية في مخطط واضح.
4- تحرير الدراسة وفق المخطط مع إيراد الاستشهادات المناسبة عن الموضوع من الرواية.
ب- المرحلة الثانية: تقييم عمل الكاتب، وذلك في شكل أسئلة
يجيب عنها التلاميذ:
1- ما غرض الروائي من هذا الموضوع؟.
2-هل وفق في اختيار الموضوع أم لم يوفق؟
3-هل وفق في اختيار الشخصيات المناسبة والمعبرة عنه أم لم يوفق؟
4- هل كان موضوعيا في طرحه أم متحيزا؟
5- هل نجح أم أخفق في طريقة العرض "الأسلوب" من حيث الوصف والسرد والحوار؟
6- هل نجح في إثارة عواطفنا؟
ونبدأ المرحلة الأولى بقراءة الرواية بإمعان وجمع كل ما يتعلق بموضوع الجمال واستخراج العناصر وترتيبها بصورة منطقية ثم ترتيب هذه العناصر في مخطط يقارب المخطط الذي استخدمه الكاتب. ولنفرض أنه كما يأتي:
أولاً. مقدمة: التعريف برادوبيس.
ثانياً. عناصر الموضوع:
1. مظاهر جمالها.
أ. دقة أعضائها وتناسقها.
ب. رشاقتها.
I. مشيتها.
II. رياضتها.
III. رقصها.
ج. عذوبة صوتها.
I. حديثها.
II. ضحكتها.
III. غناؤها.
د. شبابها وحيويّتها.
2. معيار الحكم على جمالها.
3. علاقات الجمال:
أ. الجمال والقيم:
I. الجمال والجمال.
II. الجمال والخير.
III. الجمال والحق.
ب. الجمال والذكاء.
ج. الجمال والفن.
د. الجمال والسلطان:
I. الجمال والمال.
II. الجمال والقوة.
III. الجمال والملك.
هـ. الجمال والحب.
4. نعيم الجمال وجحيمه.
5. الجمال والموت.
ثالثاً. الخاتمة.
وبعد أن وضعنا المخطط ننتقل إلى تحرير الموضوع وفق العناصر التي وضعناها، مستشهدين على كل عنصر بما يناسب من المعلومات التي جمعناها من الرواية ورتبناها.
تحرير الموضوع:
من هي "رادوبيس" الحسناء؟
هي امرأة ريفية بسيطة، انقطعت صلتها بأهلها، بعد أن أحبّت نوتيا ذهبت معه في سفينته إلى أقصى الجنوب، واختفى من حياتها فجأة دون أن تعرف السبب أو تعرف مصيره، وأصبحت وحيدة في هذه الدنيا، ليس معها إلا شبابها وجمالها:
" كلا لم تكن وحيدة. كان معها جمالها فلم تتشرد، والتقطها كهل ذو لحية طويلة، وقلب ضعيف، وطابت لها الحياة، وأثرت بموته، وتوهج نورها فخطف الأبصار، فانجذبوا إليها كالفَراش المجنون. وألقوا تحت قدميها الصغيرتين قلوباً فتية وأموالاً لا تعد، وبايعوها ملكة للقلوب في قصر بيجة".
الأعمال الكاملة (3) رادوبيس ص 425
لقد جعل محفوظ من "رادوبيس" امرأة وحيدة لا أصل لها ولا حسب، ليظهر لنا أن السلطة الوحيدة التي تملكها هي "الجمال"، وليبين سطوة هذا الجمال وقدرته على استقطاب السلطات الأخرى من مال وقوة وسلطان وفن، ممثلة في التاجر "عانن" وقائد الحرس "طاهو" و"فرعون" و"بنامون".
قبل أن نتحدث عن جمال رادوبيس نتساءل: ترى ما هو الجمال؟ ودون أن نغرق أنفسنا في التعاريف المختلفة، نختار للإجابة عن السؤال تعريفين مبسطين له:
الأول من المعجم العربي الأساسي:
"الجمال صفة تلحظ في الأشياء، وتبعث في النفس سرورا واستحسانا بالانتظام والتناغم، وهو أحد المفاهيم الثلاثة التي تنسب إليها أحكام القيم: الجمال والحق والخير، عكسه القبح.
ص 264
والثاني من كتاب "مباهج الفلسفة" للكاتب "ول ديورانت" ويمثل الجمال عند الفيلسوفين "كانط" و"شوبنهور":
" الجمال صفة للشيء الذي يبعث في أنفسنا اللذة بصرف النظر عن نفعه، ويحرك فينا ضربا غير إرادي من التأمل ويشع لونا من السعادة الخالصة."
مباهج الفلسفة – ول ديورانت ص 285
ويؤكد محفوظ هذا المعنى على لسان الشاعر "رامون حتب":
" هل توجد غاية في الدنيا وراء الجمال واللذة؟"
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 402
ويوضح لنا هذه اللذة في حديثه عن تأثير جمال "رادوبيس" في "فرعون":
" وكان لا يشبع من النظر إلى وجهها، وأخذ يحس بتخدير عام يعتَورُ حواسه وعقله، فلم يعد يأبه لإرادته."
ص 419
والجمال في عبارة محفوظ الأولى وفي التعريفين السابقين ينطبق على جمال الطبيعة والجمال الفني. وجمال المرأة هو جزء من جمال الطبيعة، ويتساءل الفيلسوف الأمريكي ول ديورانت:
" أتُحَبُّ المرأة لأن جسمها يتضمن التماثل والوحدة، وكل استدارة فاتنة؟ أم أن هذه الصورة تسحرنا في أي ميدان توجد فيه، لأنها تذكرنا أو كانت تذكرنا بالمرأة ؟"
مباهج الفلسفة ص 294
وسواء أكنا نرى المرأة جميلة لأنها تذكرنا بجمال الطبيعة أو العكس، فلا خلاف على أن جمال المرأة هو أروع آيات الجمال في الطبيعة.
ورادوبيس الحسناء في رواية محفوظ تجمع بين جمال المرأة الطبيعي بوصفها امرأة، وجمال الفن، بوصفها نتاج خيال الكاتب المبدع، فما مظاهر هذا الجمال؟
مظاهر الجمال:
مظاهر الجمال أربعة: دقة الأعضاء وتناسقها، والرشاقة، وعذوبة الصوت، والشباب لارتباطه بالصحة والحيوية، فمن كانت لديها إحدى هذه المظاهر كان لديها قسط من الجمال، ويزداد حظها من الجمال بتوفر معظم هذه المظاهر لديها وتراعى هذه العناصر الأربعة في كثير من البلدان عند اختيار ملكات الجمال، فماذا توفر منها لدى رادوبيس؟
مظاهر جمال رادوبيس:
بدأ الكاتب موضوعه بوصف عام لجمال رادوبيس، حين قدمت في هودجها الفاخر في يوم عيد النيل، محمولا على أكتاف أربعة من النوبيين:
"جلست في الهودج غادة حسناء، تستند في طراءة إلى وسادة، وتتكئ على نمرقة بساعد بضّ وتمسك بيمينها بمروحة من ريش النعام، تلوح في عينيها الجميلتين نظرة ناعسة حالمة، تصوبها إلى الأفق البعيد في كبرياء سامية، تقتحم الخلق أجمعين."
ص 371
ثم ألمح إلى رشاقة حركتها وعذوبة صوتها:
" وهنالك مالت المرأة إلى الأمام قليلا، بجيد كالغزال، ونثرت من فمها الوردي كلمات تاقت نفوس إلى سماعها فتوقف العبيد عن السير."
الصفحة نفسها
دقة أعضائها وتناسقها: وانتقل من الوصف العام إلى الخاص مركزا على دقة الأعضاء وتناسقها:
"وكان ما يرى منها نصفها الأعلى، فاستطاع المجدودون أن يشاهدوا شعرها الأسود الحالك السواد، ينتظم على رأسها الصغير في أسلاك من الحرير اللامع، ويهبط على كتفيها في هالة من الليل كأنه تاج إلهي، ينبلج في وسطه وجه مشرق مستدير، عانقت فيه أشعة الشمس خدين كالورد اليانع، وفما رقيقا مفترا كأنه زهرة من الياسمين في خاتم من القرنفل، وعينين دعجاوين صافيتين ناعستين، تلوح فيهما نظرة يعرفها الحب معرفة المخلوق لخالقه، فما رئي وجه قبل هذا اختاره الجمال سكنا ومستقرا"
ص 372
رشاقتها: هي المظهر الثاني من جمال رادوبيس، ويعتبره العقاد أهم صفات الجمال في المرأة:
" إن الجسم الجميل هو الجسم الحر، وما من حسناء إلا وهي تعلم ذلك بفطرتها، فلا تعدل بالرشاقة صفة من صفات الملاحة، وليست الرشاقة إلا خفة الحركة، وليست خفة الحركة إلا دليل على أن وظائف الحياة حرة في جسدها، تخطو وتلتفت وتشير وتختال بلا كلفة ولا معاناة.
مطالعات في الكتب والحياة ص 374
مشيتها: كانت رادوبيس رشيقة في مشيتها:
"ومشت الغانية تتهادى، وهبطت درجات البركة المرمرية على مهل، ومضى الماء يغمر القدمين."
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 390
رياضتها: ومثال الرشاقة في سباحتها ومرحها:
" ثم ألقت بجسدها في الماء الهادئ يأخذ منه عطرا ويعطيه بردا وسلاما، واستسلمت لمداعبة الماء في رخاوة، ولعبت فيه ما شاء لها الهوى والمرح وسبحت طويلا تارة على بطنها، وتارة على ظهرها، وثالثة على أحد جانبيها."
ص 391
رقصها: وهي غاية في الرشاقة حين ترقص:
" ثم ضحكت ضحكة رقيقة، وجرت في خفة الغزلان إلى وسط البهو، وأشارت إلى العازفات، فلعبت أناملهن بالأوتار، ورقصت الغانية رقصة من رقصاتها المختارة التي يبدع فيها جسمها اللدن، ويأتي بالمعجز من الخفة والتثني، وغلب الطرب القوم على أنفسهم، فاشتركوا بأكفهم مع الدفوف، واتقدت في الأعين أنوار خاطفة، وختمت رقصتها، ثم طارت كالحمامة إلى عرشها."
ص 405
عذوبة صوتها: والصوت العذب من أجمل مفاتن المرأة في رأي "ول ديورانت":
فالصوت الرقيق أبدع شيء في المرأة، وقد يمتعنا ويسحرنا أكثر من المفاتن التي نراها بالعين، أما الصوت الأجش فقد يفسد نصف جمال أبهى الأشكال."
مباهج الفلسفة ص293
ويشنف آذاننا صوتها العذب في حديثها وغنائها:
حديثها: أما صوتها عند الحديث فموسيقى عذبة تسعد السامعين
" ولما وجدتها تلوذ بالصمت قالت بصوتها الموسيقي."
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 457
ضحكتها: وضحكتها كحديثها ذات رنين موسيقي: "فضحكت رادوبيس ضحكة رقيقة كرنين الوتر."
ص 432
غناؤها: أما غناؤها فيطرب الآذان وينطلق بالروح إلى أجواء علوية. وهاهي تغني قصيدة "رامون حتب": يا من تسمعون إلى وعظ الحكماء:
" أنشدت الغانية اللحن بصوت إلهي حنون أطلق الأرواح من قيود الأجسام فهامت في سماوات الجمال والسعادة، وذهلت عن متاعب الأرض وهموم الدنيا، وشاركت في التجلي الأعلى، وظل القوم بعد إمساكها نشاوى يتنهدون فرحا وحزنا ولذة وألما."
ص 404
وغناؤها العذب يجمع بين حلاوة صوتها وبين جمال الفن المبثوث في الشعر واللحن.
شبابها وحيويّتها: لكل سن جمالها فللطفولة حسنها الملائكي، وللشيخوخة بهاؤها الرزين ولكن الشباب هو أوان ازدهار الجمال، وبزواله تذوي نضرته، ونستشهد بالعقاد من جديد في أهمية ارتباط الجمال بالشباب: "وأحب ما نحب الجمال في سن الشباب، فهل تعلم لم يكون الجمال في الشباب أجمل وأحب في النفوس؟ ذلك لأن الشباب هو سن اللعب وانطلاق الحياة في سبيل الاكتمال والنماء بلا وقف ولا ركود".
مطالعات في الكتب والحياة ص 375
وسن الشباب مرتبطة بالصحة والحيوية:
"وتقل فيها آفات الجسم وعوائقه فتثب وظائف الحياة وثبا وتعتلج اعتلاجا".
الصفحة نفسها
ويؤكد فرانسوا كوبي Francois Coppée سرعة زوال الجمال: "الحياة ومضة برق، والجمال لا يدوم إلا يوماً".
« Encyclopédie Des Citations ». P.Dupré .p135
ويشير الأخطل الصغير "بشارة الخوري" إلى ارتباط الجمال بالشباب:
الصِّبا والجمالُ ملك يديْكِ أيُّ تاج ٍ أعزُّ مِنْ تاجَيْكِ
"شعر الأخطل الصغير" بشارة عبد الله الخوري ص 45
وقد كانت رادوبيس في أوج شبابها:
" وسأل سائل: كم عمرها؟
- يقولون إنها بنت ثلاثين.
- لا يمكن أن تتجاوز الخامسة والعشرين.
- ليكن عمرها ما تشاء، فهذا الحسن اليانع القاهر، يقسم أن لم يلحقه الذبول أبدا".
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 373
ونلمح نشاطها وحيويتها المعبران عن الصحة والشباب في ابتسامتها الساحرة: "فابتسمت ابتسامة سعيدة فاتنة، ومضت في ثغرها كتعويذة سحرية."
ص 421
كما نلمح نشاطها ومرحها عند استيقاظها من النوم:
"ثم جلست في فراشها هنيهة، وغادرته - كما كانت تغادره كل صباح- نشطة ومرحة كملحة بارعة في نفس عامرة بالفكاهة، واستحمت بالماء البارد، وتعطرت بماء الزهر، وارتدت ثيابها المبخرة."
ص 429
معايير الحكم على الجمال:
هذه مظاهر جمال رادوبيس وسحرها وجاذبيتها فما هو معيار الحكم على هذا الجمال؟
يعرف "محفوظ" تمام المعرفة أن بعض معايير الجمال تختلف من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، لذلك تفادى بذكاء وصف جسم رادوبيس بدقة، فيما عدا الوجه الذي لا يختلف الناس كثيرا في معايير جماله، فنحن لا نعرف هل كان جسمها نحيلا حسب معايير الجمال في هذا العصر أم كان ممتلئا حسب معايير الجمال عند الإغريق:
" أما النظرة الإغريقية، فجمال المرأة فيها هو جمال الطبيعة وجمال الصحة، وهو الجمال الذي إذا نظرت إليه تمثلت لك المرأة في جميع حالاتها، أمّاً مدبرة ومعشوقة، ومدللة، ولم تتمثل لك زينة فحسب."
" ساعات بين الكتب" ص 665
أما المظاهر الأخرى من الرشاقة، وعذوبة الصوت، والشباب والحيوية فهي معايير عامة ونسبية لا يمكن قياسها بدقة.
وقد اعتمد "محفوظ" معيارا هاما في الحكم على جمال "رادوبيس" هو إجماع الرجال على مختلف طبقاتهم وأجناسهم على تميزها بفتنتها الطاغية واعترافهم بتأثير سحرها فيهم، ومقت النساء لها غيرة وحسدا وخوفا منها على رجالهم، وهو معيار عملي يجنبنا النقاش في ذاتية الجمال وموضوعيته، واختلاف المعايير في الحكم عليه، كما أنه يعتمد على الذوق الجماعي الذي يعتبره بعض فلاسفة الجمال من أهم المعايير:
" هناك من يرى أن ليس ثمة معيار للذوق السليم إلا ما كان متعارفا عليه في جماعة من الجماعات".
الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 201
وهكذا نرى في بداية الرواية انبهار الناس بجمالها وتعليقاتهم المتنوعة على حسنها:
"وقد فتن الناس منظرها كافة، وحرك قلوب الشيوخ الفانية، فصوبت إليها من جميع الجهات نظرات نارية، لو عثرت في طريقها بصوان لأذابته ورمقتها أعين النساء شزرا ومقتا، وسرى الهمس بين المحيطيين بها، وانتقل الحوار من فم إلى فم:
- يالها من امرأة فاتنة.
- رادوبيس، يسمونها ربة الجزيرة!
- هذا جمال قهار، لا يمكن أن يعصاه قلب".
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 372
وإذا تركنا العامة إلى الخاصة، نجد السيد "عانِنْ" من كبار تجار المملكة يصف تأثير حسنها فيه قائلا:
"وهل يستطيع من تقع عيناه على وجهك، أن يحتفظ في قلبه بأدنى حرارة لامرأة سواك؟"
ص 393
"أما الوزير "سوفخاتب" فقد وصفها لفرعون عندما ألقى النسر فردة صندلها في حجره قائلا:
"هي صورة أنثوية يا مولاي، جعلتها الآلهة آية على قدرتها وإعجازها."
ص386
وهكذا نرى أن معيار الإجماع في الحكم على جمال "رادوبيس" مقنع ولا يمكن رفضه.
علاقات الجمال:
الجمال والقيم:
قيم الحق والخير والجمال مترابطة فيما بينها لأنها مُثل الكمال التي يسعى إليها الإنسان، فالجمال تجربة انفعالية معيارها الوجدان، والخير عملية أخلاقية معيارها الضمير، والحق معياره العقل:
" الجمال والقبح بالنسبة إلى الانفعال، كالخير والشر بالنسبة إلى الفعل، والحق والباطل بالنسبة إلى العقل:
المعجم الفلسفي (1) د. جميل صليبا ص 407
فكيف نظر محفوظ إلى علاقة الجمال بكل من الخير والحق والجمال؟
الجمال والجمال:
لم يكتف محفوظ بعرض مظاهر جمال رادوبيس فأرانا بالمقابل ولو بصورة مختصرة مظاهر جمال "فرعون" فهو شاب لا مثيل له في حسنه، كما يصفه أحد أفراد رعيته:
" أجل، أجل، إن فرعون شاب جميل، لا نظير له في طوله الفارع وحسنه الجاهر."
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 369
ويصف آخر حيويته واندفاعه:
" إن شبابه من نوع جامح، وإن جلالته ذو أهواء عنيفة."
ص 369
ونسمع صوت ضحكته الموسيقية المفعمة بالحياة:
" فضحك ضحكته الفاتنة، وكانت ضحكة رنانة فتية تنبض بالحياة الدافقة"
ص 426
ويهيئ الكاتب أذهاننا إلى انجذاب الجمال للجمال، فنرى "رادوبيس" تنفعل عند رؤية "فرعون" بموكبه في عيد النيل انفعال فرح وسعادة:
" وأثار الحماس رادوبيس نفسها فدبت فيها حياة فجائية، وأضاء وجهها بنور بهيج، وصفقت يداها الرخصتان".
ص 376
وتمنت يوم "التتويج" ويوم "عيد النيل" أن يراها كما رأته:
"وكانت رأته قبل ذلك في يوم التتويج العظيم منذ شهور قلائل، وكان يقف في عجلته كما وقف اليوم فارع الطول جاهر الجمال، مرسلا بناظريه إلى الأفق البعيد. وقد تمنت يوم ذاك كما تمنت اليوم لو عطف إليها عينه."
ص389
وحين خطف النسر فردة صندلها وألقاها في حجر فرعون: سأل عن صاحبته رادوبيس وزيره ومستشاره "سوفخاتب" وقائد حرسه "طاهو" اللذيْن كانا يسامرانه:
"- حقا إن الجمال عالم ساحر، يطالعنا كل يوم بالمعجزات، هل هي أجمل من رأيت؟ فقال سوفخاتب باطمئنان: هي الجمال عينه يا مولاي".
ص 386
بينما أجابه "طاهو" الذي كان يحب "رادوبيس" ويريد تزهيد فرعون فيها:
"إن جمالها يامولاي جمال شيطاني رخيص لا تضنّ به على طالب." الصفحة نفسها
ولكن الملك الذي كان يهتم بالجمال ولا يهمه إن كان شيطانيا أو رخيصا، أجاب: "كلاكما يغريني وصفه."
الصفحة نفسها
وهكذا انجذب كل منهما إلى الآخر قبل أن يلتقيا، ومن الطبيعي أن ينجذب الجمال إلى الجمال.
الجمال والقبح:
القبح عكس الجمال، والتضاد بينهما بالنسبة إلى الانفعال، كالتضاد بين الخير والشر بالنسبة إلى الفعل:
"الجمال والقبح بالنسبة إلى الانفعال كالخير والشر بالنسبة إلى الفعل."
المعجم العربي الأساسي ص 264
وإذا كانت نفوسنا تنفعل إيجابيا تجاه الجمال الذي يبعث في أنفسنا اللذة فهي تنفعل سلبيا إزاء القبح الذي يثير فينا الاشمئزاز والتقزز:
"أما القبح فيعمل على خفض حيويتنا، واضطراب هضمنا وأعصابنا، وقد يؤدي إلى الصّداع أو إثارة النفس."
مباهج الفلسفة ص 289
وقد أراد محفوظ أن يؤكد مظاهر جمال رادوبيس ويرسخها في ذهن القارئ بإظهار ضدها ونقيضها ممثلا في الساحرة "ضام" التي اقتربت منها في عيد النيل، فرأينا الجمال والقبح جنبا إلى جنب، والساحرة عجوز شمطاء، أعضاؤها بارزة ومتنافرة، وكل ما فيها عدو للرشاقة والحيوية والمرح، وصوتها يؤذي الأسماع:
"وشقت الصفوف المتراصة بغتة امرأة غريبة، كانت منحنية الظهر كالقوس، تتوكأ على عصا غليظة، منفوشة الشعر بيضاءه، طويلة الأنياب صفراءها، مقوسة الأنف، حادة البصر، يشع من عينيها نور خفيف يرسل من تحت حاجبين كثيفين أشيبين، وكانت ترتدي جلبابا واسعا طويلا، يضيق عند وسطها بمنطقة من الكتان، وصاح الذين رأوها: ضام... الساحرة ضام.
فلم تبالهم، وسارت بقدميها الهزيلتين".
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 373
أما صوتها فهو نقيض صوت "رادوبيس" العذب:
"وسألت الساحرة الشاب بصوتها الأجش: "كم عمرك ياغلام؟"
ص 374
وبينما رأينا أن رادوبيس قد فتن الناس مظهرها كافة نرى رد فعلهم مختلف إزاء الساحرة القبيحة:
"وكان المحيطون بها بين خائف منها ومتهكم بها".
الصفحة نفسها
وليس للساحرة دور آخر في الرواية، سوى إظهار التناقض الصارخ بين الجمال والقبح، وبيان تأثير كل منهما في الناس، والإشارة الذكية إلى الفرق بين سحر الجمال وسحر الشعوذة.
ولكن الجمال والقبح اللذيْن نتحدث عنهما، يتعلقان بالمظهر، وبالقبح المادي لا المعنوي، وكثيرا ما نرى إنسانا قبيح المنظر، ولكنه جميل المخبر، ذو أخلاق عالية، ونرى إنسانا جميل المنظر ولكنه قبيح المخبر، وقد اهتم محفوظ بهذا الجانب، حيث نرى "طاهو" الذي أحب "رادوبيس" حبا جنونيا يتهمها بعد أن صدته ولم تستجب لحبه بالقبح والبشاعة، ويجردها من إنسانيتها:
"ما أقبحك يارادوبيس... أنت صورة بشعة مشوهة، ومن يحسبك جميلة أعمى لا يبصر. إن صورتك قبيحة لأنها صورة ميتة، ولا جمال بلا حياة، لم تنبض الحياة بصدرك قط، ولم تدفئ قلبك أبدا. أنت جثة وسيمة القسمات، ولكنها جثة، لم يبد الحنان في عينيك ولا انفرجت شفتاك عن ألم، ولا خفق قلبك بالعطف، نظرتك جامدة، وقلبك قد من حجر، أنت جثة ملعونة، وينبغي أن أكرهك، وأن أكرهك ما حييت".
ص414
الجمال والخير:
يعرف المعجم الفلسفي الخير بما يأتي:
"الخير اسم تفضيل يدل على الحسن لذاته، وعلى ما فيه من نفع وسعادة."
ص 407
وقد قرن أفلاطون بين الخير والجمال:
" الخير هو مزيج من أفضل ما في اللذة، وما في المعرفة بما في ذلك جميع العلوم واللذات التي هي ضرورية وخالصة، وأقيم الجوانب في هذا المزيج هو الجمال والتناسب والصدق".
الموسوعة الفلسفية المختصرة ص 53
وما دام الجمال يثير في النفس اللذة فهل نستطيع أن نقول إنه الخير؟
وقد دافع أحد المفتونين برادوبيس في عيد النيل عنها ضد من اتهمها بالخلاعة والغواية بقوله:
"معاذ الرب يا سيدتي، ألم تعلمي بعد بأن جمالها الرائع ليس كل ما وهبتها الآلهة من ثراء؟ وأن "توت" لم يبخل عليها بنور الحكمة والعرفان؟"
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 373
وأضاف:
"قصرها يستقبل كل مساء جماعة ممتازة من الساسة والحكماء والفنانين فلا عجب أن تكون كما يشاع عنها من أعمق الناس فهما للحكمة، وأدراهم بالسياسة وأذوقهم للفن."
الصفحة نفسها
فأضاف إليها جمال العقل الذي يختلف عن جمال الجسم:
"غير أن ما يميل المرء إليه طبعا يكون جميلا طبعا، وما يميل إليه عقلا فهو جميل عقلا".
المعجم الفلسفي (1) ص 408
وهكذا تصبح "رادوبيس" مثلا للكمال جمعت بين الجمال الطبيعي والجمال العقلي أي بين اللذة والمعرفة.
وتستوقفنا عبارة "طاهو" الذي كان يحبها ويخاف أن يتعلق بها قلب "فرعون" فيحرمه منها، فحاول التقليل من شأنها أمام "فرعون" واصفا جمالها بأنه شيطاني:
"وتنهد طاهو يائسا، وحدج كبير الحجاب بنظرة خاطفة فهم معناها، ثم قال:
- إن جمالها يامولاي جمال شيطاني رخيص، لا تضن به على طالب."
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 386
ترى هل هناك جمال ملائكي وجمال شيطاني؟ وما معيار كل منهما؟ لقد أعطى كلا الرجلين معنى أخلاقيا لجمال رادوبيس، فقرنه الأول بالخير وقرنه الثاني بالشر.
ونتساءل: أيمكننا أن نعطي للجمال معنى أخلاقيا خيّرا أو شريرا؟
أكد "محفوظ" على استقلال سلطان الجمال حتى عن صاحبته عندما تحدث عن اللقاء الأول بين "رادوبيس" و"فرعون" حين فاجأها في قصرها، وأخذت بهيبته:
" غلبتها المفاجأة وهز نفسها الشخص المعبود، كأنه ضوء متوهج سلط على عينيها بغتة، فانكمشت كعذراء تتصدى لرجلها لأول مرة....إلا أن جمالها الرائع خاض المعركة بغير علم منها- ثابت الجنان، عظيم الثقة وسلط شعاعه السحري على عيني الملك الداهشتين كما تسلط الشمس شعاعها الفضي على نائم النبت، فيصحو ويرف رفيفا فاتنا."
ص 420
فالجمال في حد ذاته ليس شرا، ولكن صاحبته يمكن أن تكون شريرة كما يقول العقاد:
"إن الشر غير الجمال، هذا حق لا ريب فيه، ولكن لا يلزم منه أن الشرير غير الجميل، فقد يكون الشر في جميل، وقد يكون الجمال في شرير."
ساعات بين الكتب ص 474
فالخير والشر فعلان يدخلان في الأخلاق، والجمال ليس فعلا لننسب إليه الخير أو الشر. أما اتهام جمالها بالشيطاني، فلأن الناس يرجعون فتنة المرأة إلى الشيطان كما يقول العقاد، ويخلطون بين جمالها وبين تسخيرها هذا الجمال لأغراض شريرة:
" فقد كان الأقدمون يخلطون بين فتنة المرأة بوحي الغريزة الجنسية، وفتنتها بوسوسة الشيطان، ويحسبونها من ثم حبالة شيطانية يسخرها الشيطان، أو تستعين به هي على تسخير المفتونين لأغراضها ومشتهياتها".
إبليس ص 173
إنها غانية وراقصة، جمالها يخاطب الغرائز، لأنها لم تحصنه بالعفة بل جعلته مشاعا، ليس لكل الناس بل للصفوة والقادرين على الدفع، حتى أن عشاقها من صفوة رجال المملكة يتنافسون في ذلك:
"ورجا كل أن تكون الليلة له، وألحف في الرجاء، وتنافسوا في ذلك تنافسا شديدا. "
ص 406
وقد قالت للفيلسوف "هوف" عندما نعتها بقلة التجربة:
"أحقا إني قليلة التجارب؟ إنك لم تر مما رأيت شيئا.
- وماذا رأيتِ ممّا لم أرَ؟
فأشارت ببنانها إلى القوم اللاهين، قالت ضاحكة:
- رأيت هؤلاء الرجال المبرزين، وصفوة مصر سيدة الدنيا، يسجدون عند قدمي، وقد ردوا إلى الوحشية ونسوا حكمتهم ووقارهم، كأنهم كلاب أو قردة."
ص 405
ويقارن "محفوظ" بين جمالها وجمال غريمتها الملكة "نيتوقريس."
" ونسيت الملكة لحظة همومها وما جاءت من أجله أمام الحسن الهلوك، وبغتت رادوبيس نفسها أمام جمال الملكة الرزين وجلالها المجيد."
ص 457
إن جمال الملكة محصن بمسؤولية الملك، فهو جمال رزين يبعث على التبجيل لا على الشهوة، وليس كجمال رادوبيس الهلوك الذي يحرق الرجال بنار الشهوة:
" كان جمال رادوبيس قاهرا نفاذا يحرق من يدنو منه، ويبعث في نفسه الجنون، ويملأ صدره برغبة حادة لا تروى ولا تشبع".
ص 420
وإذا قارنا بين جمال "رادوبيس" الذي يحرق بناره كل من يقترب منه، وجمال "أمنريدس" بطلة رواية "كفاح طيبة" للكاتب نفسه ذات الجمال النوراني، لمسنا الفرق بين الجمال الشيطاني والجمال الملائكي:
"فبرزت من المقصورة امرأة يتبعها سرب من الجواري، تقدمتهن في أناة كشعاع من النور الساطع يغشى العيون، شقراء يعبث النسيم بحاشية ثوبها الأبيض، ويراقص ذؤابتها الرقيقة الذهبية، فأيقنا أن صاحبتها أميرة من قصر طيبة."
الأعمال الكاملة(3) كفاح طيبة ص 582
ولا عجب فهي أميرة في الثامنة عشرة من عمرها، وجمالها محصّن بالعفة والبراءة، يبهر ولا يغوي، ويسعد ولا يشقي، فهي بعيدة عن رغبات الطامعين.
وكما استنتجنا سابقا فالجمال في حد ذاته لا يمكن أن يكون ملائكيا أو شيطانيا، ولكننا نصف مجازا جمال "نيتوقريس" بالرزين لأنه محصن بهيبة الملك وجلال المسؤولية، ونصف جمال "رادوبيس" بالشيطاني، لأن صاحبته لعوب وعابثة لا تعترف بالحرمات ولا تحصن جمالها بالأعراف والأخلاق، وهو مرتبط بالرذيلة، وقد مر معنا في الحديث عن رشاقتها ورقصها عبارة: "واتقدت في الأعين أنوار خاطفة"، كما مرت معنا عبارة: "فصوبت إليها من جميع الجهات نظرات نارية، لو عثرت في طريقها بصوان لأذابته". وشتان بين جمال يسمو بك إلى عليين، وجمال ينزل بك إلى أسفل السافلين، كما نزل بصفوة رجال المملكة فارتموا تحت أقدام "رادوبيس وقد ارتدوا إلى الوحشية"، فالجمال يرتبط إذن بسلوك صاحبته وأخلاقها، وهذا ما أشار إليه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث له:
إيّاكم وخضراء الدِّمَن.
فقيل: يا رسول الله وما خضراء الدِّمَن؟
قال:المرأة الحسناء في المنبت السوء.
مسند الشهاب، القضاعي جامع الحديث النبوي، بحث في الأنترنيت
الجمال والحق:
الحق كما تعرِّفه الفلسفة الحديثة هو:
" مطابقة القول للواقع وضده الباطل والكاذب والمتناقض".
المعجم الفلسفي (1) ص 481
وإذا كان الجمال يدرك بالحواس والوجدان، فالحق يدرك بالعقل، والفرق بين الفنانين والفلاسفة، هو اهتمام الأولين بالجمال والآخرين بالحق أو الحقيقة، وهذا ما نستنتجه من مقولة "ول ديورانت" عن الفيلسوف "سبينوزا" :
"فقد كان به جوع أهل الشمال في البحث عن الحقيقة، أكثر من شهوة الجنوب في البحث عن الجمال".
قصة الفلسفة ص 213
ويضع محفوظ الحق والجمال في مرتبة واحدة في الإقناع، فتصبح التجربة الانفعالية بالجمال مساوية للعملية العقلية. ويختار الشاعر "رامون حتب" ليقول على لسانه لرادوبيس بأن الجمال مقنع كالحق. وكانت رادوبيس أثناء النقاش الذي دار في مجلسها حول الخلاف بين "فرعون" و"خنوم حتب" قد تحمست لفرعون الذي بهرت بحسنه الجاهر في عيد النيل، وآمنت بأنه على حق، ولم تكن قد التقت به قبل ذلك أو عرفته عن قرب:
" وكانت تؤمن بحقيقة ثابتة، وهي أن فرعون سيد البلاد دون منازع، وأنه لا تجوز مخالفته بأي حال، ولأي سبب، ونفر قلبها من كل رأي يخالف عقيدتها هذه وصرحت برأيها لأصحابها."
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 399
ثم تساءلت عن سبب إيمانها بهذا الرأي:
" وختمت كلامها بقولها:
- إني أعجب متى آمنت بهذا الرأي؟!
فقال "رامون حتب" مداعبا:
- حين وقعت عيناك على فرعون لأول مرة ..لا تفرطي في العجب فالجمال مقنع كالحق سواء بسواء".
الصفحة نفسها
إن منطق الجمال ينازع منطق العقل بحجة شديدة الإقناع، وكثير من القضاة يحكمون للجمال، وهم يظنون أنهم يحكمون بالحق وللحق.
الجمال والذكاء:
يزعم بعض المفكرين والأدباء أن الجمال والذكاء قلما يلتقيان، وأن المرأة الجميلة هي غبية بالضرورة. يقول أوسكار وايلد:
"الجمال الحقيقي ينتهي حيث تبدأ دلائل التفكير، فالذكاء بطبيعته، نوع من التضخم يشوه تناسق الوجه."
ENCYCLOPEDIE DES CEITIATIONS P 379
وهذا القول فيه الكثير من التجني على الجمال، ولكن "رادوبيس" كما صورها محفوظ كانت حادة الذكاء، ولم يكن ليتسنى لهذه الغانية الراقصة، أن تصل إلى ما وصلت إليه لولا ما تتمتع به من ذكاء وحسن تصرف، فالجمال وحده لا يمكن أن يذهب بعيدا بالمرأة الفقيرة التي ليس لها حسب ولا نسب معروف، إذا كانت غبية. وكثير من الجميلات من البيئات المنحطة أنهين حياتهن في المواخير أو على الأرصفة، فالمرأة الجميلة الغبية في المجتمع الراقي، يحميها حسبها ونسبها ومالها، وقليلا ما يكتشف الناس غباءها.
وقد عجب بطرس بطل رواية الحرب والسلام من اشتهار زوجته الجميلة بالذكاء رغم غبائها:
"وكانت شهرة "هيلين بيزوخوف" بأنها امرأة أخاذة ذكية، قد بلغت من الرسوخ أن "هيلين" تقول أتفه السخافات وأكبر الحماقات، فإذا بالجميع لا يزيدهم ذلك إلا افتتانا بكل كلمة من كلماتها، وإذا هم يبحثون في أقوالها عن معنى عميق لم يخطر لها هي نفسها على بال."
الحرب والسلم (2) ص 374
أما المرأة الجميلة في البيئة الفقيرة كالكنز الموجود في غير حرز، عرضة لأطماع الطامعين وغارات اللصوص، ما لم تحصنها الأخلاق، أو يحميها الذكاء من الاستغلال ومن طمع الأقوياء، ويصبح مع جمالها حسبا ونسبا لها، وقد اعترف الجميع لرادوبيس بالذكاء وأولهم فرعون:
" نعم يا حبيبتي ...ألا ترين أن عقلك كنز ثمين."
الأعمال الكاملة(3) رادوبيس ص 465
كما نقل إعجاب سوفخاتب الوزير بفكرتها التي أشارت بها على فرعون ليستطيع التغلب على كهنة المعبد:
"لله هذا الرأس الثمين، لشد ما أعجب به سوفخاتب، ولشد ما أعجب بالفكرة التي أبدعها".
ص 471
واعترف لها طاهو أيضا بالذكاء:
"إنها فكرة رائعة جديرة بذكائك اللامع"
ص 475
ونلمس ذكاءها وتبصرها في محاولتها كبح جماح "فرعون" والحد من اندفاعه وتأليبه الأعداء والخصوم:
"ينبغي أن نستوصي بالحكمة، وأن نتراجع زمنا قصيرا مختارين وإن يوم النصر لقريب."
ص 482
وهي تنكر عليه قلة مداراته، وتصلبه في السياسة:
"أتريد أن تسوس شعبا بغير التجاء إلى الحيلة أحيانا ؟"
ص 482
ولكن محفوظ ركز على جمالها، فجمالها وليس ذكاؤها، هو مصدر قوتها وسلطانها، فالجمال كما يقول "ديورانت" يسمو على الذكاء:
" إن الجمال الحي أفضل من أبهى فنون النحت والتصوير، وأشرف حتى من الذكاء لأنه أصل الفن وغاية الذكاء، ولو أن الحياة كانت جميلة ما احتاجت إلى الذكاء، أما إذا كانت الحياة ذكية، فإنها تسعى جاهدة كي تصبح جميلة."
مباهج الفلسفة ص 196
انتهى الجزء الأول من موضوع الجمال ، ويليه الجزء الثاني ويبدأ بالجمال والفن.
ملاحظة: نشرت هذه الدراسة في الصفحة 138 من العدد 38 لسنة 2013 من مجلة التبيين المحكمة الفصليةالتي تصدر عن جمعية الجاحظية.
لقراءة الجزء الثاني انقر هنا: الجمال: نجيب محفوظ جزء 2
لقراءة الموضوع السابق انقر هنا: المواضيع الثقافية: تعريفها ووظيفتها
للاطلاع على فصول الكتاب، انقر هنا: المواضيع الثـقافيّة
للاطلاع على الكتب التعليمية الأخرى للكاتب انقر هنا: كتب أدبية وتربوية